مدونات
الخاطرة الخمسون فَتَزلَ قَدمٌ بَعدَ ثُبُوتِها
نشرت منذ سنة القراءات:467

خواطر الصفا القرآنية: هي عبارة عن مجموعة من الخواطر التي تعالج بعض القضايا العلمية، والإيمانية، والتربوية، من منظور القرآن الكريم. ويشارك في كتابتها ثلة من العلماء والباحثين والمثقفين.
قال تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 94]
يحدثنا المولى عزَّ وجلَّ في هذه الآيه منبهاً ومحذراً من حالة قد يَصعُبُ تصورُها وتظهر كأنها نادرة الحدوث، يحدثنا جل وعلا عن عبدٍ ثابتٍ على دينه، ملتزمٍ بأمره، وصفه الله في كتابه بالثبات، ثم تتغير الأوضاع وتنقلب الأحوال.. فتزل هذه القدم بعد ثباتها، وتضلُ بعد الهداية، وتنحرف بعد الاستقامة.. نسأل الله السلامة. وينبه اللطيف بعباده، الخبير بأحوالهم، في الآية نفسها إلى هذا الانقلاب والانتكاس له مقدمات تودي بصاحبها إلى هذا الزلل، فقال جل وعلا:" وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا " أي أن الاستخفاف بالأيْمان، والاستهانة بعهد الله، والتفريط بميثاقه، هو السبب الحقيقي لهذا الضلال، والموصل لهذا الحال. فالمولى جلّ وعلا أرحمُ بعباده أن يُضلهم بلا ذنب اقترفوه، أو مُهلكات اقترفوها بين يدي الضلالة "فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ"، فمن زرع الاستخفاف بشرع الله وأمره؛ لن يحصد إلا مُرّاً بالغواية والضلال، ومن باع نفسه ودينه وعلمه للشيطان؛ لن يحصد إلا زلل القدم بعد ثباتها وفي الآخرة عذاب عظيم.
وتستكمل الآيات عرضها للمشهد وتصويرها لحالة الضلال ببيع عهد الله، والتخلي عن هذا الميثاق بثمنٍ بخس، دراهم قليلة معدودة "وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا" حتى وإن كثرت هذه الدراهم، وتضاعفت هذه المغريات، فما هي إلا قليلٌ بخس أمام رضوان الله وما عنده، "مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ". وكأن الآية تنبه إلى أن الركون إلى الدنيا، والتخلي عن عهد الله، لأجل مصلحةٍ زائلة، أو منصبٍ راحل، أو مالٍ فانٍ، أو مقابل كل هذا وغيره، هو ما يؤدي إلى زلل القدم بعد ثبوتها وانحرافها بعد استقامتها. فكيف بمن كان حاله أن يبيع آخرته بدنيا غيره؟! ويشتري بعهد الله ثمناً قليلاً!! طمعاً في نيل رضى حاكم أو ملك أو مسؤول، فيعمِّر دنيا غيره ويخسر نفسه ودينه ودنياه.
ثم تشير الآية التالية إلى الفريق الآخر الثابت على دينه، مستصغراً متاع الدنيا وزينتها وبهرجها، فيؤثر رضوان الله على كل ذلك، يخاطبه مولاه عز وجل مبشراً مطمئناً: "وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" فمع هذا الثبات على عهد الله وميثاقه، سيظهر الابتلاء والامتحان، وحينها ليس من دواء أجدى من الصبر حين تتجلى صُوَرَهُ فيجزي الله عباده الصابرين بأحسن ما كانوا يعملون.
وأمام هذه الصورة المتكاملة التي تصور حالة الثبات ثم الزلل، وبيان دواعي هذا الزلل ومقدماته، ليس من علاج أنجع من دعائه صلى الله عليه وسلم "يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ" الذي كان كثيراً ما يردده ويدعو به كما وصفه أصحابه وواصفوه، والتوسل الدائم لله عزَّ وجل بحُسنِ الختام، وأن يقبضنا غير فاتنين أو مفتونين، وألا يغترَن أحدٌ بعمله ويركن إلى نفسه، فتستهويه الشياطين، فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوق السوء بما صدت عن سبيل الله ولها عذاب عظيم.
اترك تعليقاً
ذات صلة
- الخاطرة الثالثة يا ولدي أرفق بالقرآن.. و توقف عن الهجر !
-
- الخاطرة الرابعة والخمسون: وقفة مع قول الله عزَّ وجلَّ: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"
-
- الخاطرة الخامسة والأربعون وقفة مع قوله تعالى: "إنا لله وإنا إليه راجعون"
-
- الخاطرة الثالثة والسبعون- "وَإِنْ تُطِيعوهُ تَهْتَدُوا"
-
- الخاطرة السابعة القرآن الكريم: تلاوةً وعِلمًا وعَملًا
-
- الخاطرة التاسعة والستون: مراتب الرجال في الدعوة إلى الله في ضوء القرآن الكريم
-
- الخاطرة العشرون مِن الظلال الدلالية في سورة البلد
-
- الخاطرة الخامسة والثمانون- "إنّ الله يرفعُ بهذا الكتاب أقواما"
-
- الخاطرة الثامنة والخمسون: القرآن الكريم... غذاءٌ للروح وسكينةٌ للنفس
-
- الخاطرة العاشرة BENEFITS OF MEMORIZING THE QURAN
-
- الخاطرة الثامنة والستون:"وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ"
-
- الخاطرة الرابعة والأربعون تأملات إيمانية في أوائل سورة عبس
-
- الخاطرة السابعة والثلاثون في ظلال قوله تعالى: "لقد جاءكم رسول" بقلم الدكتور: علي سلطان الجلابنة/ من الأردن
-
- الخاطرة الستون: أحسن القصص
-
- الخاطرة الثامنة والثلاثون رسالة إلى الآباء فى تربية الأبناء فى ضوء القرآن الكريم
-
- الخاطرة الثالثة والثمانون- توقير العلماء مطلب قرآني
-
- الخاطرة الثانية والثمانون- التحفيز النّبوي إلى حفظ القرآن الكريم وتعلّمه
-
- الخاطرة التاسعة عشرة نَظمُ حروف كلمات القرآن الكريم وسِياقها وارتباطها بالمعنى
-
- الخاطرة الثامنة والعشرون كتابُ الله وكفى
-
- الخاطرة الحادية والسبعون: "من تربية القرآن لي"
-
- الخاطرة الحاديةوالخمسون: وقفات تربوية مع قول الله عزّ وجلّ: "وَعَلَى ٱلثَّلَـٰثَةِ ٱلَّذِینَ خُلِّفُوا۟"
-
- الخاطرة السابعة والعشرون بركةُ القرآنِ الكريمِ
-
- الخاطرة السادسة عشرة "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون"
-
- الخاطرة الرابعة والستون: "إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا"
-
- الخاطرة التاسعة والسبعون- القَبولُ مدارُ الأعمالِ الصالحةِ
-
- الخاطرة التاسعة والخمسون: مواساة ربّانية
-
- الخاطرة السبعون: تأملات في قول الله تعالى: "فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيم"
-
- الخاطرة الثالثة والأربعون وقفات في ظلال قوله تعالى: "إلّا تنصروه فقد نصره الله"
-
- الخاطرة الثانية عشرة الخوف والحَزَن بين سورتي فُصِّلت والأحقاف
-
- الخاطرة السادسة والخمسون: القرآن الكريم...لتطمئن به قلوبكم
-
- الخاطرة الثانية والخمسون: مقارنة بين قول العرب الجاهلي: «القتل أنفى للقتل» والآية القرآنية: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ}
-
- الخاطرة الثانية والستون: القرآن دستور حياة
-
- الخاطرة التاسعة والعشرون "والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة "
-
- الخاطرة الرابعة والعشرون من أخذ به فقد أحبه الله واصطفاه
-
- الخاطرة السابعة والستون: أصناف المطففين
-
- الخاطرة الراببعة والسبعون- الصلاة روح الحياة
-
- الخاطرة السادسة والسبعون- الحكمة زاد المؤمن
-
- الخاطرة السادسة والأربعون في رحاب قوله تعالى: "واصبر فإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين"
-
- الخاطرة الأربعون رحلتي مع القرآن الكريم
-
- الخاطرة التاسعة والأربعون وقفات مع آيات من سورة التين
-
- الخاطرة السادسة والعشرون الصراع بين الحق والباطل في سورة يوسف
-
- الخاطرة الخامسة والثلاثون "اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي"... زاد الداعية في طريق الدعوة إلى الله
-
- الخاطرة الأولى: خير جليس
-
- الخاطرة التاسعة تدبُّر القرآن مفتاح الهداية والصلاح
-
- الخاطرة الثالثة عشرة القرآنُ مصدرُ البركةِ في الأوقات والأعمال
-
- الخاطرة الثالثة والخمسون: سورة الكهف ... منجاة من الفتن
-
- الخاطرة الثانية والثلاثون الإحسانُ إلى العبادِ الطريقُ إلى رحمةِ ربِّ العباد
-
- الخاطرة الرابعة تأهيل معلمِ القرآن الكريم.. ضرورة مُــلِــحَّة
-
- الخاطرة السابعة عشرة رسالة القرآن.. بين فقه النص وأصوات الحناجر
-
- الخاطرة السابعة والسبعون- الأيّام الغاليات
-
- الخاطرة الحادية والأربعون عندما تستمع للقرآن بقلبك
-
- الخاطرة الرابعة عشرة المشيئة في سورة الكهف
-
- الخاطرة الثانية والسبعون- الفاتحة أولاً
-
- الخاطرة الثالثة والستون: أصناف المطففين
-
- الخاطرة الحادية عشرة القرآنُ لا يَسْرُدُ التاريخَ.... وإنما ينتقي منه العِبَرْ
-
- الخاطرة الخامسة والسبعون - الوفاء ... بناء وعطاء
-
- الخاطرة الثمانون- القرآن الكريم ربيع القلوب
-
- الخاطرة الخامسة والعشرون مبادئ الاستهلاك الرشيد من خلال الكتاب المجيد
-
- الخاطرة الثلاثون كتاب الله... وحوار النفس اللوامة
-
- الخاطرة الثانية والأربعون في ظلال قول الله عزّ وجلّ: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"
-
- الخاطرة السادسة والستون: "یَـٰبُنَیَّ ٱرۡكَب مَّعَنَا"
-
- الخاطرة الثامنة إشراقاتٌ في تعامل السلف الصالح مع القرآن الكريم
-
- الخاطرة الرابعة والثمانون- مقتطفات تأمّليّة من سورة النّساء
-
- الخاطرة الثانية: إنه أحسن الحديث
-
- الخاطرة الخامس عشرة النَّظرُ في السِّيرةِ معيارُ أهلِ النَّظر
-
- الخاطرة الثامنة والسبعون- همسة في أُذن حافظ
-
- الخاطرة السادسة نظرات في سورة الحُجرات
-
- الخاطرة الرابعة والثلاثون أكل السُّحتِ ومفهومه في القرآن الكريم
-
- الخاطرة السادسة والثلاثون لفتات إيمانية، ونصائح عملية لطلاب مراكز القرآن الكريم
-
- الخاطرة الخامسة والستون: آدمُ خليفة
-
- الخاطرة الحادية والثمانون- بُنَيّتي.. لباسُ التقوى ذلك خير
-
- الخاطرة الثانية والعشرون يَفِرُّ منهم ولا يَفتدي بهم
-
- الخاطرة السابعة والأربعون الإعجاز الإعرابيّ في سورة الفاتحة
-
- الخاطرة الثامنة عشرة القرآن... معجزة الله الباقية لبني البشر
-
- الخاطرةالحادية والستون: غار الهدهد على التوحيد
-
- الخاطرة الحادية والثلاثون "وإذا قلتم فاعدلوا"
-
- الخاطرة السابعة والخمسون: غبار المصاحف
-
- الخاطرة الخامسة والخمسون: مرافئ الأُنس والنّور
-
- الخاطرة الحادية والعشرون "أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه"
-
- الخاطرة الثالثة والثلاثون من هدي القرآن الكريم في جني ثمار الابتلاء
-
- الخاطرة الخامسة أهمية تدبر القرآن في الإصلاح
-
- الخاطرة الثالثة والعشرون الأسلوب التربوي في القرآن الكريم
-
- الخاطرة التاسعة والثلاثون في ظلال قول الله عزّ وجلّ: "ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَوَتِ وَٱلأَرضِ"
-
- الخاطرة الثامنة والأربعون مـا بين "فَأَسَرَّهَا" و "أَنَا يُوسُفُ" و "لَا تَثْرِيبَ" حكـــاية وأي حكـــاية
-
الأكثر قراءة
- الخاطرة السادسة عشرة "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون"
-
- الخاطرة الخمسون فَتَزلَ قَدمٌ بَعدَ ثُبُوتِها
-
- الخاطرة الحادية والسبعون: "من تربية القرآن لي"
-
- الخاطرة التاسعة تدبُّر القرآن مفتاح الهداية والصلاح
-
- المقتطفة الرابعة والأربعون- ما معنى يتلونه حقّ تلاوته؟ في قول الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121].
-