يأتي الأمر الإلهيّ إلى نبيّ اللّه تعالى نوح -صلّى اللّه عليه وسلّم -فيقول اللّه تعالى له “واصنع الفلك”، فإنّ القضيّة محسومة والنّتيجة معروفة إنّهم مُغرقون!!
“ويصنع الفلك” في أرض قاحلة لا ماء فيها ولا أنهار، ولا مؤهّلات هندسيّة ولا بشريّة تصنع سفينة عظيمة كما نرى اليوم، وإنّما هي ألواح ودُسُر، أشياء بسيطة حين ذكرها، ولكنّ الأمر ليس كما هو ظاهر وإنّما يُستَشفّ منه إرساء قواعد الأمر الإلهيّ دون نقاش أو محاولة نكوص عن الهدف، وهو يصنع السّفينة يمرّ عليه النّاس فيسخرون من صنيعه وما يفعله، وهو يخاطبهم بلغة الواثق المتيقّن فيقول لهم “إن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون)”.
الموعد قريب، والأجل محدود، والقضيّة محسومة، والرّكاب معيّنون، فقط أنت اصنع والمالك المدبِّر جلّ وعلا متكفّل بكلّ الأمور فقط اصنع ولا تلتفت، وهذا يربّي على الانصياع لأمر اللّه تعالى وتطبيق أمره بلا مناقشة ولا مجادلة، وهي إشارة إلى نزع التّواكل من القلب والأخذ بالأسباب، فبإمكان نبيّ اللّه تعالى أن يقول أنا نبي اللّه، واللّه يعطيني كلّ شيء دون أن أبذل، ولكنّ الله تعالى أمر نبيّه بأن يبذل مستعيناً باللّه جلّ وعلا.
جاء الأمر الإلهيّ للطّبيعة الأرضيّة أن تغيَّري وتحرّكي واغضبي على الجناة المشركين، ويا أيّتها الأمطار انزلي على غير موعد، ويا أيّتها الأنهار تفجّري وثوري غضباً للتّوحيد.
يركب الموحّدون السّفينة، سفينة النّجاة، سفينة التّوحيد، التي ما ركب فيها أحد إلّا وأنجاه اللّه من الهلاك والعطب والبوار، ويحرّك السّفينة ويوقفها باسم اللّه الذي أفرده بالعبودية ووحّده واستعان به.
تحرّكت الأمواج وادلهمّت الخطوب وانتشر الخوف والهلع وارتجّت الأرض وانهمرت السّماء بدموعها، ثمّ يخاطب الوالد الحنون ابنه الذي ترك السّفينة بالتّحبّب، ولك أن تستشعر النّداء الصّوتيّ المملوء محبّة وعطفًا وحناناً ولو كنت أباً ستدرك وتعي ما جاء في الآية من شفقة “يا بنيَّ اركب معنا” انجُ معنا فنحن ناجون، ولكنّ حكمة اللّه قضت ألّا يكون معهم، بل يتركهم ويقول: “سآوي إلى جبل يعصمني من الماء”، فيصرخ الأب قائلاً: “لا عاصم اليوم من أمر اللّه إلّا من رحم”، لن ينجو أحد من هذا الغضب إلّا من استجلب مقوّمات الرّحمة وأعلاها هو التّوحيد، وهنا رأفة بالأب الحنون المشفق على ولده يظهر مشهد عظيم يواري الابن عن أنظار الأب حتّى لا يتألّم لموته فيقول اللّه تعالى: “وحال بينهما الموج” فكان الفراق بينهما، ثمّ هلك مع الهالكين وهذه نتيجة الشّرك ومخالفة أمر اللّه تعالى وعصيان أمره، ثمّ يأمر اللّه تعالى بعد انتهاء المشهد الأليم الذي انتقم الجبّار به منهم فيقول: “يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي” وقُضي أمرهم فكانت حكايتهم تُروى للتّخويف والزّجر ومثال لمن عصوا اللّه تعالى، فذكروا في معرض الذّمّ، وذكروا في معرض الزّجر لغيرهم، وذكروا في صفحات التّاريخ المظلمة، وخُلّد اسمهم في قوائم المشركين، وسيبقون في جهنّم خالدين.
أركان المشهد: السّفينة سفينة التّوحيد، والقائد الموحّد، والموحّدون، والمشركون الهالكون، والسّفينة تتحرّك بالتّوحيد وتقف بالتّوحيد وينجو النّاجي بالتّوحيد ولا هلاك إلّا بالشرك المشرعن والمقنّن.
الرّسالة مفادها: اصنع لنفسك سفينة تنجو بها، ولو سخر منك السّاخرون، واعتصم بحبل التّوحيد فهو الذي فيه نجاة العبد من الهلاك، وامض باسم اللّه في كلّ شؤون حياتك، وقف عند أمر اللّه لا تتجاوزه، وقتئذ تسعد في الدّنيا والآخرة.
د. محمد خالد السّميري / من الأردن